معرض
آمال قناوي

كانون ثاني – آيار ٢٠٠٧

" ربما أملك قلبا يخفق ويعمل بانتظام، ولكنني لا أستطيع أن أؤكد أنني حية."

عندما أبحث داخل نفسي، فإنني أبصر ذاتا لها وجود مستقل، وأنها تحتوي على مجموعة من القوانين التي تحكم الجسد وتسيطر عليه بوصفه وجودا ماديا. ومع ذلك، فإن وجود الذات لا يتطابق مع استقلالية تلك الذات، ومن هنا يأتي سعي المتواصل لتحديد علاقتي بالوجود و بالعدم.

إنني لا أتطلع إلى عملي بوصفه نسويا بالمعنى التقليدي للكلمة. فأنا، بشكل ما، معنية بالألم والعزلة، من بين غيرهما من الأحاسيس الأخرى. كما أنني أحاول، على المستوى التقني، إيجاد لغة بصرية قادرة على الوصول إلى المتلقين بمختلف مستوياتهم، لغة تسمو بمميزات الثقافة، سواء أكانت شرقية أم غربية. أفكر بعملي الفني على أنه عمل من إنتاج فنانة أنثى. وأرى مسيرة عملي أداة تعبير بدلا من كونها توقا لإنتاج عمل فني كامل.

ربما أملك قلبا يخفق ويعمل بانتظام، ولكنني لا أستطيع أن أؤكد أنني حيّة. تقيم المشاعر داخل هذا الإطار الإنساني وتجعل منه إناء يحتويها. لذلك، فإنني أحاول أن أكيّف فهمي من أجل أن أدرك الذات ضمن سياق أوسع، سياق تتذبذب فيه هذه المشاعر المجردة النائية ما بين أن تكون ذكريات أو أحلاما. وداخل إطار عمل كهذا، يبدو لي أن هذه المشاعر المجردة هي ما يكوّن ذاتي الحقيقية، الذات التي بوسعي أن أراها بوضوح، بعيدا عن القيود الضيقة لجسدي.

قبل بضع سنوات، مررت بتجربة شخصية كان لها تأثيرها البالغ على حياتي. في تلك اللحظة من الزمن، لم يكن قد مر على تجربتي في العمل أكثر من سنتين. وخلال مرحلة التراجع التي مررت بها على أثر ذلك، بدأت أدوّن يومياتي. فأصبحت هذه المذكرات مع مرور الوقت، فضائي الخاص، وحديقة سرية بشكل ما، كنت فيها قادرة من خلالها على مناقشة الحدود المراوغة ما بين الواقع والذاكرة. واستخدمتها فيما بعد نقطة انطلاق لإبداع حكاية بصرية أباحت لي الاتصال بجميع المشاعر والأحاسيس، المشاعر التي كانت في بعض الأحيان محمّلة بالازدواجية والتناقض.

أعمالي لا تتناول شؤون المرأة في المجتمع الإسلامي، على الرغم من أنها تعالج الطريقة التي يصوّر بها البشر المجتمعات التي يقيمون فيها، أو التي نشئوا فيها. البشر، نساء ورجالا على السواء، بما فيهم الفنانون من كلا الجنسين، يخوضون غمار القضايا والمشاكل التي تبتلي بها مجتمعاتهم. وفنّي يسلّط الضوء على فهم هذه القضايا وكيفية التجاوب معها نتيجة لذلك.

في عملي المسمى "الغرفة" (2003)، حاولت رسم حدود العلاقة ما بين الوجود الفيزيائي المريض للبشر، والعالم الخاص الذي يشغلونه في وقت واحد، وذلك عن طريق سبر غور الكون الذي يمتزج فيه الواقع بالأحلام، والمتخيّل مع حنين حميم إلى الماضي. أحاول، ودائما أحاول، أن أوجد فضاء أستطيع فيه أن أتحقق من هوياتي إزاء العالم المحيط بي. وباستخدام وسائل تعبير واسعة النطاق، فإنني غالبا ما أسعى لاكتشاف عالم الوهم مقابل قطرة كامنة في عمق الذاكرة، وهي ذاكرة تكاد تكون قائمة دائما على الواقع.

من خلال تحسس لعالم الماوراء (المتافيزيقي) المتخفى تحت العالم المادي، فإنني أسعى إلى جعل اللامرئي مرئيا. وبهذه الطريقة توصلت إلى رؤية الوجود المجازي للغرفة الكامن داخل الجسم المادي، وهي غرفة تعكس غرفة أكبر منها بكثير تكمن خارج الجسم، وهي تمثل المجتمع بكل ما فيه من عادات وتقاليد وأعراف وعوامل تحدده.

عندما أفكّر بالانزياح بوصفه حالة، فإن ما يرد في خاطري ليس الانزياح المادي الذي تحدثه الحدود الفاصلة بين المجتمعات، بل الانقسامات التي تتحملها كينونة الإنسان في تنقلها هنا وهناك بكل ما فيها من تناقضات، ومن أحلام ومشاعر وأحاسيس، وما هي إلا تجليات المجتمع ومتغيراته.

الانزياح لديّ يعني تحول الإنسان من ذاته الخاصة إلى حالة أخرى، حالة يُختزل فيها جسده ليصبح محض محّارة. ويجري التحول داخل هذه المحّارة، فخلال مرحلة التحول هذه يحدث انفصام تام بين العناصر: ينفصل الشكل المادي الخارجي عن محتواه، كما تنفصل عن الواقع الأحلام القائمة من زمن طويل. فيصبح الإنسان غريبا لا عن العالم الخارجي فقط، وإنما عن ذاته المتعرية أيضا.

لقد قادني هوسي بالانزياح إلى إبداع "الغابة الأرجوانية المصطنعة" (رسوم متحركة بالفيديو 2005). وهو عمل قائم على حلم تتكرر فيه عبارة "الغابة الأرجوانية المصطنعة" عدة مرات، عرّيت فيه أشياء، وأعضاء، وأجزاء من الجسم، استخدمت قطعها لتكون عناصر رئيسية في عملي. تمثل كل قطعة من هذه المكوّنات بطلة الحكاية (ربما تمثلني)، وترتبط بمرآة. في هذه المرآة ثمة كينونة أثيرية تلتهمها كلها. وعلى امتداد عرض الرسوم المتحركة، تقيم الكينونة الأثيرية علاقة مع بطلة الحكاية بوصفها كلا واحدا أو "أجزاء خاصة"، تتغذى، دائما وبلا نهاية، عليها وعلى صورتها وخصوصيتها، وعلى أفكارها، بل على أحلامها أيضا. في فصل الذروة النهائي، تقوم كل من الكينونة والبطلة بالتهام بعضهما البعض الآخر في عملية فناء متبادلة.

فردوس الجسد الساقط في الفخ ( عمل إنشائي تركيبي installation بالفديو-بصور فوتوغرافية محدودة النسخ، 2006) هو رحلة مزدوجة، رحلة إلى داخل الذات وأخرى تمر بالواقع، أي بالعالم المادي. البطلة داخل عربة متحركة تتطلع إلى مشهد من المدينة. ومع خُفوت أضواء المدينة، لا يعود بالإمكان مشاهدة أي شيء غير انعكاس باهت لوجه إنسان فوق زجاج النافذة. ثم يتطور العمل ليوحي بأن العربة هي طائرة. فما إن تختفي المدينة عن الأنظار حتى تصبح الشاشة داخل الطائرة وسيلة الاتصال الوحيدة للبطلة مع العالم. فهي تراقب صورة طائرة صغيرة تزحف في أرجاء الشاشة، ومن خلال حركتها تكوّن خطوطا من نقاط تربط مدينة بأخرى، وجميع المدن بلا اسم.

حين تأخذ الطائرة بالهبوط، تتطلع إلى كل الاتجاهات، فلا ترى غير فضاء بلا شكل يتمطى ممتدا إلى الأبد. ليس ثمة مشهد طبيعي محدد يُرى، ولا خط أفق. فالبطلة واقعة في فخ موقع ثابت لزمن أمده دقائق، وساعات، وأيام .. زمن ما أبدي.

من خلال عملي المشترك مع عبد الغني قيناوي، لما يزيد على عشر سنوات، قمنا بإدخال مادة ذات أوجه كونكريتية في عملنا الذي أكمل عالم أحلامي الفردية الشخصية جدا، وعالمي الروحاني. وكانت مسيرة اكتشافاتنا المادية والذهنية شبيهة إلى حد كبير بالمسيرة العلمية. العلم، بما يتطلبه من تقصٍ عن الخصائص والبنية والعلاقات التي تسعى للوصول إلى لب الأشياء. فالعلم ليس مقصورا على البحث عن الأجزاء الدقيقة والخاصة، بل هو يطمح إلى فهم الكليّات أيضا. ومن أجل التعامل مع الفن من خلال الطرق العلمية يتطلب النظر إلى طرق عمله ووظائفه الفسيولوجية وجزيئاته المحرّكة (الديناميكيه)، وكذلك البحث عن مكوناته العضوية بقدر البحث عن طرقه الآليه. لقد حاولنا، في مشاريعنا الفنية التي تشمل النحت والإنشاء والتركيب installations أو عروض بالفديو، أن نفهم القوانين التي تحكم الأشكال الطبيعية وتفاعلاتها مع بعضها. وتذهب فرضيتنا المشتركة الرئيسية إلى "أن الوظيفة تقرر الشكل". مع ذلك، فالوظيفة تربط بين مكونات الطبيعة كلها، المتحرك منها وغير المتحرك، لتحولها إلى نسيج عالمي واحد يحتضن جوهر الوجود.

آمال قناوي
2006

متعلّقات