الترميم: بعد تاريخي

عمار خماش
مهندس معماري وفنّان قام بترميم أول ثلاثة مبانٍ في دارة الفنون

كانت عمان مدينة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها ألفي نسمة خلال العقد الأول من القرن العشرين، بيد أن ربطها بسكة حديد الحجاز وإنشاء محطة كبرى من محطاته في عمّان عام 1930، ووجود العديد من الجسور المثيرة للإعجاب في مناطق الجوار قد أفضى إلى سلسلة كاملة من التغيرات التي أدت بدورها إلى تحولات في هذه المدينة الصغيرة الهادئة فاقت حدود الخيال.

وما لبثت هذه المدينة أن شهدت نهضة عمرانية لم تألفها منذ العهد الروماني قبل ألفي عام، تلك النهضة التي كانت بمثابة البداية لنشأة مدينة عمّان الحديثة التي تضرب جذورها عميقاً في التاريخ القديم. ولا غرابة في ذلك، فها هي آثار العصر الحجري تشير إلى أن ينابيع المياه التي تزخر بها أرض عمّان قد جعلت من هذه المدينة موئلاً جذاباً لبيئة إنسانية ملائمة منذ اثني عشر ألف عام أو يزيد.

Khamassh_old darat

دارة الفنون في الثلاثينيّات تطل على وسط البلد بعمّان

ومع نهاية عصر المماليك قبل خمسمائة عام مضت، توقفت طفرات النشاط العمراني التي تجلت في العصرين البيزنطي والإسلامي، وغدا تاريخ الحركة العمرانية لمدنية عمّان خلال الفترة التي بدأت مباشرة في أعقاب الأيام الذهبية لفيلادلفيا الرومانية واستمرت حتى نهاية الحكم العثماني في مطابع القرن العشرين، تاريخاً من الانحدار المتواصل بصورة عامة.

كان على أهل فيلادلفيا في القرن الأول قبل الميلاد أن يكدحوا في المحاجر الصخرية البكر بغية الحصول على حجارة البناء، أما البناؤون في العصرين البيزنطي والإسلامي فقد أعادوا استخدام حجارة الأبنية الرومانية، حتى أصبحت هذه الطريقة تقليداً استمر إلى ما قبل عقود قليلة خلت. ويمكن للمرء أن يعثر اليوم في وسط مدينة عمّان على حجارة كانت ترتصف بها شوارع فيلادلفيا الرومانية، ثم أقدم أهل عمّان على استخدامها في مداميك الارتفاعات الجانبية لمبانيهم في أربعينيات هذا القرن.

لقد بذل الناس في هذه المدينة في العهد الروماني جهوداً مضنية في تقطيع الحجارة الصخرية لإعادة استخدامها في أعمال البناء، واستوردوا أعمدة الجرانيت من الأقصر المصرية ومن مناطق في جوار روما. وما أن حل العصران البيزنطي والإسلامي حتى كانت جهود السابقين قد وفرت لأجيال هذين العصرين كميات وافرة من حجارة البناء، ولم تكن الطبيعة ذاتها بمنأى عن أداء دور معين في هذا الميدان، ذلك أن الزلازل القوية التي كانت تحدث بين الحين والآخر قد أحالت الكثير من المباني إلى أكوام صخرية شبيهة بالمحاجر، لكنها محاجر ذات قطع صخرية منفصلة ومتشكلة، لا تحتاج كبير عناء في القطع والتفصيل، الأمر الذي جعل من استخدامها من جديد وبحجمها القائم آنذاك أو بتصغيرها أو حتى بإعادة تشكيلها مسألة يسيرة لا تقتضي جهداً كبيراً. في عام 1878 وصلت إلى عمّان أولى المجموعات الشركسية، واتخذت بعض عائلاتها مستقراً لها في هذه المباني الأثرية القائمة، كالغرف المنشأة على القناطر وممرات المسرح الروماني، وفي بعض نواحي سبيل الحوريات Nyphaeum وفي المباني المتهدمة والكهوف الرابضة شرقي تلة القلعة. وبتواصل الجهد الإنساني على مدى السنوات أصبحت المنطقة التجارية القائمة حالياً في وسط البلد (بدءاً من المسرح الروماني حتى منطقة رأس العين) وأدياً أخضر محفوفاً بحقول الخضار وبساتين الفاكهة، يسقيها جدول صغير ينحدر من نبع في رأس العين (يقع الآن بالضبط تحت المباني الجديدة لبلدية عمّان).

عُرف الشركس بمهارتهم العالية وتراثهم العريق في أعمال الخشب، ولا شك في أنهم كانوا يفوقون في ذلك أبناء المجتمعات المحلية شبه البدوية في المنطقة. وقد انعكست هذه المهارة وهذا التراث في أساليب بنائهم لمنازلهم، حيث استخدموا الأخشاب على نطاق واسع في إنشائها، وحذقوا في زخرفتها على المستوى الفني وهو ما لا تخطئه العين لدى وقوعها على واجهات منازلهم.

ومثلما برع الشركس في استخدام الأخشاب في إقامة المنازل، فقد برعوا أيضاً في استخدامها لإنتاج عربات النقل الصغيرة مما أثار إعجاب العرب المحليين ودهشتهم. كانت تلك العربات تجسيداً للمهارة الشركسية وتعبيراً رمزياً عن هوية الشركس، خاصة إذا علمنا أن تلك العربات كانت تنطوي على كثير من التعقيدات الفنية مقارنة بمعطيات تلك المرحلة، فسلالها الواسعة المتطاولة كانت تحاك من أغصان يتم إعدادها على إطار من خشب البلوط، فيما كانت عجلاتها تصنع من الخشب الذي يُكسى فيما بعد بحلقات حديدية. واستخدمت هذه العربات في نقل المحاصيل في مواسم الحصاد، لتعود إلى عمّان وطرقها عربات ذات عجلات مستعيدة نمطاً من العربات مضى بزوال العصر الروماني منذ ما يقرب من ألفي عام.

موقع دارة الفنون

يقع المبنى الرئيسي لدارة الفنون على القمة الشرقية لما يعرف الآن بـ”جبل اللويبدة” وبذلك احتل موقعاً استراتيجياً هاماً تؤكده بقايا الفن والخزف الروماني وآثار الكنيسة البيزنطية والكهوف وأحواض المياه وغيرها من آثار يرجع تاريخها إلى عصور إسلامية مختلفة. فلا عجب في أن يكون هذا الموقع منذ القدم موضع اهتمام ومحل اختيار للكثيرين بفضل ما يتمتع به من تميز وجاذبية وجمال.

وترتفع دارة الفنون نحو ستين متراً عن واديين جافين ينحدران شرقاً، يؤدي أحدهما إلى وادي صقرة والثاني إلى منطقة العبدلي، مما منح الدارة مزايا في جغرافيا الأرض تماثل ما تتمتع به قلعة عمّان؛ ذلك أن كلاً منهما متصلة من ناحية الغرب بتلال كبيرة تحف بها الوديان من كل جانب على أن هذين الموقعين لا يخلوان من فوارق، فجبل اللويبدة أعلى ارتفاعاً وأكثر اتساعاً، بيد أن الفارق الأبرز يتمثل في ذلك الاتصال البسيط القائم بين موقع القلعة وجبل الحسين عبر شريط من الأرض لا يصل عرضه إلى خمسين متراً؛ مما جعل الموقع ذاته منفصلاً تماماً على وجه التقريب، ومما جعل من حمايته مسألة يسيرة من خلال تعزيز الحماية الطبيعية القائمة بوساطة جدار استنادي يحصن المبنى من الأضرار المحتملة، هذا الأسلوب الذي استخدمه أهل عمون في القرن السابع قبل الميلاد وحذا حذوهم فيه أهل فيلادلفيا فيما بعد.

Khammash_tiles of darat al funun

التصاميم التقليدية الهندسية والنباتية لبلاط دارة الفنون

وحيث يطل موقعا القلعة ودارة الفنون على الوادي، تتمتع دارة الفنون بالإطلال على مشهد أخّاذ لجانب من الوادي الفرعي الذي يلتقي مع الوادي الرئيسي لعمّان، والذي كان يخترقه جدول صغير في زمن مضى. وعند نقطة الالتقاء هذه (الشبيهة بحرف T في اللغة الإنجليزية) ما يزال (سبيل الحوريات) قائماً حتى اليوم. وهنا بنى الرومان شارعاً بأعمدة متقابلة على الجانبين وممتدة أمام المسرح وأقاموا قنطرة أسطوانية الشكل تتيح انسياب المياه من الجدول، وربما شكلت قطعة مكملة للطريق وأسهمت في توفير استواء يؤدي إلى وسط المدينة أيام الرومان. وهناك شارع آخر يمتد من نقطة مجاورة لسبيل الحوريات (منطقة المسجد الحسيني حالياً) يتجه إلى الشمال الغربي، اكتشف مصادفة عندما تم هدم الجانب الشرقي من فندق حيفا عام 1997، ذلك الفندق الذي أنشئ شرقي مبنى البنك العربي في أوائل القرن العشرين. ولم يكن هناك مناص لهذا الشارع من ناحيته الشمالية الشرقية إلا أن يتشعب في أكثر من اتجاه، أحدها يؤدي إلى دارة الفنون عبر سلالم حجرية تصل بين الطريق والدارة.

وحين يمعن المشاهد النظر في دارة الفنون اليوم يشعر أنه بالرغم من مرور قرابة ألفي عام على الموقع، لم تطرأ عليه اختلافات كبيرة.

أنشئ المجمع الرئيسي لدارة الفنون خلال عام 1918، وكانت الأجواء المحيطة به مغايرة لأجواء عصرنا. ومع نهاية العقد الثاني من القرن العشرين أخذ سوق عمّان الصغير ينمو ويزدهر على نحو متسارع مما زاد من كثافة الازدحام، ودفع بالراغبين في إنشاء مساكن جديدة للتوجه نحو المرتفعات في كل اتجاه، وإلى منحدرات التلال في كل من جبل الجوفة وجبل القلعة وجبل اللويبدة وجبل عمّان، حتى غدت هذه المناطق الجديدة، مناطق جذب واستقطاب حديثة بفضل ما تحقق فيها من طفرات عمرانية تجلت في تلك المنازل ذات الطرز المختلفة عن المساكن التي أقامها الشركس أو الفلاحون من عشائر البلقاء. وهكذا ظهرت مساكن فخمة من طراز جديد تضاهي مباني المدن القائمة في شرقي البحر المتوسط.

تشتمل دارة الفنون على مبان ثلاثة، أنشئ اثنان منها على الطراز الأكثر شيوعاً آنذاك في بيروت وحيفا ويافا، وتشير المباني التي أقيمت في عمّان في العشرينيات إلى تماثل مع فن الهندسة المعمارية السائد في منطقة البحر المتوسط وإلى تأثر ملموس بالطراز “البندقي” نسبة إلى مدينة البندقية الإيطالية، حيث امتد هذا النمط إلى أبعد نقطة شرقاً، ووصل إلى حدود الجزيرة العربية تقريباً. بل إن جبل اللويبدة وحده يحتوي على أكثر من ثلاثين منزلاً بنيت على طراز تلك الحقبة، وما يزال بعضها قائماً جنباً إلى جنب مع المنازل التي جرى إنشاؤها في فترات لاحقة.

وتحتوي المباني الثلاثة لدارة الفنون على سمات عناصر مشتركة منسجمة مثل مخططات الأرضيات والصيانة الرئيبسية في الوسط والمتصلة بصف من الحجرات على كل جانب. وغالباً ما تشتمل هذه الصالة الرئيسية على رواق مسقوف وأعمدة تغطي المدخل الأمامي، فيما يقوم مدخل خلفي عند الطرف الآخر للصالة. ويقع هذا المدخلان المؤديان للصالة الرئيسية في وسط الجدار الأخير فيما توجد حجرات على جانبيه. وهناك نوافذ قائمة في الصالة الرئيسية عند جوانب الأبواب في الجدران الأمامية والخلفية تسمح للضوء التسرب لإنارة الصالة الرئيسية التي تتخذ شكلاً مستطيلاً بحيث يكون طولها أكثر من ضعفي عرضها وتمثل حلقة الوصل فيما بين الغرف القائمة على كل جانب. والحجرات الجانبية مربعة الشكل تقريباً، وهي ذات أبواب توصل إلى الحجرات الأخرى، علماً بأن هذه الأبواب تقع مباشرة بجانب الباب الذي يؤدي إلى الصالة الرئيسية.

ولا شك أن تصميماً من هذا القبيل يستلزم وجود أبواب عديدة حتى أنه يمكن للمرء أن يحصي ثمانية أبواب في جدران الصالة الرئيسية وثلاثة أبواب في كل غرفة جانبية.

وإذا كان هذا التصميم الفني ينطوي على وفرة وتناغم فيما بين الأرضيات والأبواب، إلا أنه لم يأخذ بكثير من الاهتمام خصوصية الإنسان. صحيح أن الأبواب القائمة في الرواق الأمامي والمؤدية إلى الحجرات الجانبية مخصصة لمرور الضيوف، بحيث يستطيعون الدخول دون العبور من الصالة الرئيسية، إلا أن ها التصميم من شأنه أن يوفر خصوصية للعائلة فقط ويحميها من الزائرين الغرباء، لكنه لا يوفر خصوصية للفرد في إطار العائلة ذاتها.

Khammash_darat floor plan 1920

مخططات هندسة الحجرات الثلاثيّة لمباني العشرينيّات

ويمكن اعتبار هذا المخطط الأرضي الذي ساد في عشرينات هذا القرن، والذي يعرف باسم “مبنى الصالة الرئيسية” أو “مبنى الفراغات الثلاثة” مجموعة من الحجرات تحف بفناء صغير مسقوف، كما يمكن تفسير تصميمه الأصلي من خلال النظر إلى المنطق الإنشائي القائم على الجمع المتناغم بين الفراغات السالبة وجدران قائمة بينها. ويتماثل هذا المخطط الأرضي مع مخططات مخازن الحبوب والكنائس والإنشاءات الأصلية القديمة، إذ ينحصر مبنى الصالة الرئيسية بين ثلاثة صفوف من الفراغات المسقوفة والتي تحصرها أيضاً أربعة صفوف من الجدران الإنشائية. ويجمع هذا الترتيب بين عدد فردي من الفراغات وعدد زوجي من الصفوف الإنشائية وفق مقاييس مختلفة، والفرق الوحيد هو أن فراغاً واحداً وجدارين جانبين تشكل غرفة واحدة أو منزلاً مستوياً بعرض غرفة واحدة، فيما تشكل خمس فراغات وستة صفوف إنشائية غرفة مظلمة في منتصف المبنى. والشواهد التاريخية في آثار الكنائس التي تكون فيها خمس فراغات، شواهد نادرة وحالات قليلة باستثناء واحدة عثر عليها في الأردن خلال أعمال تنقيب جرت في أم قيس عام 1998، وإذا ما نظر المرء إلى المخطط الأرضي للمبنى الرئيسي لدارة الفنون يمكنه أن يلحظ تشابهاً كبيراً بينه وبين المخطط الأرضي لكنيسة بيزنطية تقليدية.

وحيث يمتد موقع الدارة بصورة مماثلة شرقاً وغرباً مع ارتفاع نصف دائري من الناحية الشرقية، يغدو من الأهمية بمكان أن نمعن التفكير في التأثير الذي أحدثه الموقع بكنيسته البيزنطية في تصميم المبنى. ولما كان المرتفع الشمالي للكنيسة منحوتاً بصورة جزئية في الصخر، فقد أسهم ذلك في منح المبنى الوجهة التي يتخذها. كما أن الانحدار في الصخر الذي أقيم عليه المبنى جعل من الضروري رفع نصفه الشرقي من خلال بناء طابق تحت الأرضي يمكن للناظر أن يرى فيه أجزاء من حوض قديم وأرضية موشاة بالفسيفساء.

ويشير الأسلوب الذي أنشئ بواسطته المبنيان والأكثر قِدماً في دارة الفنون، وهما الأول والثالث، إلى تحولات في الأنظمة الإنشائية، ذلك أن الجدران قد اشتملت على طبقتين من الحجر الجيري وضع بينهما ملاط طيني. وإذا كانت الطبقة الخارجية قد بنيت من قطع الحجارة التي تم رصها في مدماك واضح، فقد بنيت الطبقة الداخلية من حجارة الدبش غير المصقولة ذات الحجم الأصغر التي جرى رصها بصورة غير منتظمة. ويتراوح سمك الجدران الخارجية هذه بين أربعين وستين سنتميتراً بحيث يمكن الاعتماد عليها في تدعيم طابق لآخر أو تدعيم السقف فقط ولما كانت هذه الجدران مصممة من الناحية الفنية لتتحمل العبء الثقيل بصورة دائمة، فإنها تخلو تماماً من أية أعمال داخلية، وهذا ما يغاير نظام الإنشاءات الحديثة المستخدم في بناء المنازل والمستند إلى الأعمدة والخرسانة المسلحة، ففي العشرينات كانت هياكل المباني عبارة عن صناديق من الجدران التي تشترك جميعها في تحمل ثقل السقف.

عندما أقيمت دارة الفنون، كان عمال البناء المحليين حديثين عهد بالخرسانة، إذ لم يكونوا قد تعرفوا عليها إلا قبل عامين فقط من إنشاء الدارة. ومن هنا كانوا يستخدمونها بحذر ووجل عندما يضطرون إلى ذلك، وحين لم تسعفهم المواد والأساليب التقليدية في صب مساحات واسعة على سبيل المثال، كان استخدام الخرسانة يمثل بحد ذاته إمكانات جديدة لإنجاز أعمال قديمة وأملاً واعداً من شأنه أن يسهم في تحسين العمل وسرعة إنجازه، لكن الموقف السلبي الذي اتخذه العمال المحليون تجاه هذا الأسلوب الجديد، وارتفاع تكاليف الإسمنت المستورد عبر البحر المتوسط، قد أعاقا استخدام هذه المادة على نطاق واسع فعال. وقد كان الحديد قبل عقد واحد فقط من وصول الإسمنت كمادة بناء مصنعة، يستخدم في أعمال البناء في الأردن، وكان يرد إليها عبر سكة حديد الحجاز، إلى أن شرع الأردن في استقبال العينات الأولى من المنتجات الإسمنتية التي قدمتها الثورة الصناعية الغربية.

وقد بنيت الجدران الخارجية للمبنى الرئيسي وفق نسق يعود تاريخه إلى عشرة آلاف عام على أقل تقدير، وذلك أن طبقتي الحجارة والملاط الطيني قد مثلت حلاً أملته على البنائين المحليين البيئة المحلية لآلاف السنوات. وتذكرنا الحجارة الملبسة المستخدمة في بناء الطبقة الخارجية لجدران دارة الفنون بالطريقة التي كان فيها الورمان يبنون جدران بيوتهم. كما أن طريقة قطع الحجارة بغية استخدامها بصورة ملائمة والبروز العشوائي في الوسط المحاط بإطار مصقول وزوايا حادة، إنما تمثل استلهاماً مباشراً للنمط الروماني الذي أعيد إحياؤه من قبل صناعة البناء الإيطالية والذي جيء به إلى الأردن من أجل إنشاء خط سكة حديد الحجاز.

Khammash_detail_5

تفصيل تيجان شرفة المبنى الرئيسي

ويتضح استلهام تيجان الأعمدة الرومانية من تلك التيجان القائمة على أعمدة الرواق الأمامي، المزخرفة بنقوش بسيطة على شكل أوراق شجر وأزهار. وفي ذلك التراث المعماري كانت أوراق نبات “الأقنثا” تنحت بأبعادها الثلاثة الكاملة، ويكون بعض أجزائها منفصلاً جزئياً عن كتلة الحجر بحيث تبدو الأوراق معلقة بالحجر بوصلات هشة. وتشكل هذه الأوراق تكويناً شاملاً كلياً طالما منح تيجان الأعمدة تأثيراتها البصرية. ومثلما هو الوضع في التراث الفني للشعوب، نرى تكراراً للزخرفة ذاتها يمتد من حقبة إلى أخرى، وكلما أعيد إنتاج هذه الزخارف منذ زمن البيزنطيين وصولاً إلى عهود إسلامية، كانت التيجان تفقد جوهرها الأصلي. والتيجان القائمة على رؤوس الأعمدة في المبنى الرئيسي لدارة الفنون هي نتاج أواخر حقبة زخرفية طويلة، فهي منتقاة بصورة غريبة، ومطعمة ببقايا عناصر بصرية تذكرنا بالعصر الكورنثي الكلاسيكي، وزخرفة بيزنطية تميل إلى الانبساط مع وجود سلة من القش، وتراث إسلامي تبدو فيه أعمال الجبس المجسمة كما هو الحال في قصر أمية في القلعة. بيد أنه من المهم الإشارة إلى أن هذا المزيج من الأساليب الزخرفية لم يكن يحدث بصورة مقصودة، ذلك أن نقاشي الحجارة لم يكونوا أصلاً مؤرخين وخبراء في فن  العمارة، بل كان همهم في ذلك الزمان مجاراة الأسلوب الشائع حينذاك، استناداً إلى جماليات فنية ترامت على امتداد تاريخ طويل. ويلاحظ المرء أنه بالرغم من تراكم النماذج القديمة، إلا أن جودة الأداء الفني كانت تشهد تراجعاً ملموساً، وحتى لا يصمنا أحد بأننا نتبنى وجهة نظر “استشراقية” لمسار التاريخ. لا بد لنا من التأكيد على أننا نتناول في هذا السياق حالة محلية وعلى نطاق محدود، ذلك أن تاريخ التأثرات الهندسية المعمارية يختلف إلى حد كبير عندما نتحدث عن القاهرة وحلب ودمشق.

ويمكن القول إن نوعية الحجر الجيري ذي اللون الأصفر الفاتح تشير إلى أن هذه الأعمدة والكثير من الحجارة المشغولة لأطر النوافذ والأبواب قد جيء بها من مدينة السلط، إلا أنه ليس بوسعنا أن نؤكد على أن هذه الحجارة قد نقلت على ظهور الجمال من على مسافة تصل إلى أربعين كيلو متراً، أو ما إذا كانت قد أحضرت من محاجر صخرية تقع فوق وادي الميدان غربي المركز التاريخي للسلط، أو ما إذا كانت قد أحضرت صخوراً غير مقطعة أو جيء بها مقطعة جاهزة. إلا أن أعمدة الرواق الأمامي، تشير في أقل تقدير إلى أنها نقلت مقطعة لأسباب عملية. ويمكن للمرء أن يستدل من مداميك الجدران الخارجية، أنه قد جيء بالحجارة من مصادر مختلفة. صحيح أنها مكونة من الحجر الجيري، لكن بعض هذه الحجارة أكثر بياضاً وأشد صلابة من البعض الآخر، وبعضا حجارة من خليط صخري ذي ألوان داكنة يحتوي على حصى صخري مضغوط، ولا تخلو هذه التكوينات من بقايا حجارة أثرية. ويلاحظ أن المدماك الأدنى في المرتفع الجنوبي للمبنى الرئيسي لدارة الفنون يحتوي على حجر بمجسم لصليب بيزنطي، لقد تم وضع هذا الحجر بصورة تخلو من أية عناية واهتمام، وهذا ما يوضح أن الذين قاموا ببناء دارة الفنون كانوا يتعاملون معها كوحدة بناء فقط، ولم يكن في نيتهم إنشاء مبنى ذي قيمة فنية زخرفية. ولربما احتوت هذه الجدران على حجارة أثرية أخرى لكن وجوهها المزخرفة أو المحفورة قد وضعت باتجاه الداخل وهو احتمال ستكشفه تكنولوجيا المستقبل المتطورة على هذا الصعيد، أو يكشفه الخيال الخلاق.

ويمكننا القول إن أسلوب إنشاء المباني الثلاثة لدارة الفنون التي بنيت في عمّان في عشرينيات هذا القرن، يمثل استمراراً للطفرة المعمارية التي حدثت لمدينة السلط قبل ذلك، وإن كانت المرحلة ذاتها تشير إلى تراجع في هذا الميدان. بل إنه يمكن اعتبار هذه المباني آخر النماذج للتأثيرات القادمة من مدن الشرق قبل وصول مواد بناء مصنعة جديدة تجلت فيما بعد في المباني التي أقيمت في أواخر الثلاثينيات من هذا القرن. وهكذا بدأ التراث المعماري يتراجع جراء تخلي الناس عن المهارات الإنشائية المحلية ودخول أنماط الهندسة الغربية، ووجود المواصفات التي يحددها سوق المواد المصنعة. ولم يعد المجتمع قادراً على توفير الاكتفاء الذاتي من الناحية العمرانية بالأساليب التقليدية، فانزلق نحو الاتجاهات العالمية في بناء المنازل، وكلما كان فن العمارة يتحول تدريجياً ليصبح نتاجاً من نتاجات المصانع، كان يفقد دوره كمؤسسة اجتماعية توفر للناس أكبر عدد ممكن من فرص العمل والتدرب على المهارات التقليدية. وتحافظ على سمات الهوية المحلية.

التجديد

وعندما بدأت أعمال الترميم والتجديد في عام 1992 كان المبنى الأول في حالة خطيرة، فقد كان الطابق الرئيسي مهجوراً آنذاك منذ خمسة عشر عاماً وكان آخر القاطنين في التسوية امرأة عجوز توفيت منذ زمن، ولم يكن في الشارع الذي يمر من شرقي دارة الفنون غير محل للنجارة، أما بقية المبنى وحديقته ذات البقايا الأثرية، فقد كانت كلها جاثمة تحت طبقة سميكة من أوراق “الأوكاليبتوس” المتساقطة.

Khammash_darat renovation

أعمال ترميم المبنى الرئيسي

لقد استندت أعمال الترميم والتجديد إلى مبادئ أساسية ظلت دوماً موضع اهتمام على امتداد مرحلة العمل، وما تزال هذه المبادئ قائمة حتى اليوم وتحظى بأهمية بارزة في إدارة دارة الفنون وتقديم صورتها للناس. كان هناك حرص شديد على أن يكون التدخل محدوداً وإلى أدنى درجة ممكنة، وانحصرت التغييرات في تلك الجوانب التي تعزز الانسجام فيما بين الوظيفة الجديدة للمباني وخصائصها الكامنة. وكان هناك إدراك سليم مفاده أن نقص المعرفة والخبرة في أعمال الترميم والتجديد يعرّض التراث المعماري لمدينة عمّان إلى معاملة فظة لا تليق بقيمة هذا التراث المعماري لمدينة عمان إلى معاملة فظة لا تليق بقيمة هذا التراث، باستخدام أساليب الكشط والصقل وطلاء الواجهات الحجرية، بغية التبييض القسري الأمر الذي أدى إلى طمس معالم البراعة اليدوية في صقل الحجارة بالإزميل. ولم يؤد هذا التعامل الذي يخلو من أية حساسية فنية إلى إزالة آثار الأدوات الحجرية التقليدية فقط، بل إنه أصاب قشرة الحجر بضرر لا يمكن إصلاحه بحيث أصبحت قائمة على مدماك معرض لتلف متواصل. أما المرتفعات الحجرية لمباني دارة الفنون فقد ظلت كما هي بعيدة عن أي تغيير، وما تزال العلامات الباهتة للأدوات القديمة التي استخدمت في نقشها بقوة ومهارة، ماثلة حتى اليوم. وعلى هذه المرتفعات يمكن للمرء أن يقرأ نصاً مكتوباً بخط اليد، وأن يرى آثار الأزاميل التي كان صوتها يدوي يوماً ما تحت ضربات المطارق، وأن يتلمس خصوصية المهارة الفردية للبناءين الذين أقاموا هذه المرتفعات.

ويمكن النظر إلى فن العمارة على أنه سجل لقرارات الأزمنة الماضية، ولا شك أن من حق الإنسان اتخاذ قرارات جديدة شريطة ألا تمحو أو تشوه أو تقهر القرارات السابقة، وفي ضوء هذا الفهم جرت أعال الترميم والتجديد في دارة الفنون.

وحينما تمت إضافة مكتبة للدارة، جرى اختيار نظام إنشائي خاص فقد بنيت الإضافات الجديدة من كتل خرسانية لتحقيق اختلاف واضح عن الأجزاء القديمة، وتم تجنب استخدام الحجارة التي يمكن أن يؤدي مظهرها إلى إيحاء بمحاكاة تثير النفور في نفوس المشاهدين. وقد انحصر هذا الاختلاف بين الجدران الخارجية للمبنى القديم والمكتبة التي شيدت فوقه في ملمس الجدران، وبدون أي فرق يذكر من حيث اللون، كي تبقى المرتفعات المعرضة لأشعة الشمس قادرة على مداعبة الظلال.

كما أضيفت مسحة قليلة من تراب حديقة الدارة لتلطيف اللون الفاقع للجبس الجديد، وفي سبيل تخفيف الأعباء الثقيلة على الزوايا، تم بناء المكتبة دون استخدام الأعمدة، وأسهم وجود الجدران الدائمة القادرة على التحمل الشديد والمبنية من قطع خرسانية مفرغة جزئياً، في جعل ملحق المكتبة خفيفاً من حيث الوزن، مع توزيع للثقل على الجدران القديمة القائمة أسفل البناء. ويمكن تغيير الوضع بسهولة ويسر إذا ما تقرر ذات يوم تفكيك المكتبة، ذلك أنه لن تكون هناك حاجة للمعدات الثقيلة لتنفيذ قرار من هذا القبيل.

عندما اختارت مؤسسة عبد الحميد شومان أن ترمم وتجدد ثلاثة من مباني عمّان القديمة وتحولها دارة للفنون فإنها كانت تبعث برسالة واضحة، مغزاها الاحتفاء بالجوهر التاريخي لعمّان ومقاومة التوسعات الحديثة الجارية على حساب التراث المعماري. وبهذه الخطوة تعززت الشخصية التراثية لجبل اللويبدة بما يسمح للمجتمع المحلي والجوار بأن يتنسم من جديد روعة القيمة الثقافية.

وفي ظل غياب خطة رسمية في مجال الحفاظ على التراث المعماري وإطالة أمد استخدامه، يخسر الأردن بصورة متواصلة شيئاً من تاريخه، وهي مسألة حساسة وهامة في نهاية المطاف، ولن يبقى أمام أبنائنا وأحفادنا في المستقبل ما يرونه من هذا التراث المعماري سوى بقايا متناثرة هنا وهناك.

إنها أمثلة قليلة قدمها أفراد من هذا الوطن كي نتمكن من خلالهم ارتياد عالم الغد برؤية أكثر وضوحاً وهوية ثقافية مشتركة.

من “دارة الفنون: فن، عمارة، آثار” ، 1997.