"يظهر التآكل، بشكل واضح، في الدَّرَج القديم الذي يفضي إلى المقهى في "وسط البلد"، من خلال البقع التي ولّدتها الحركةُ المستمرة، ولسنوات طويلة، للأقدام على الدَّرَج. هذه البقع والتي يتعذّر مَحْوُها هي جزءٌ من ميراث الذاكرة لروّاد المقهى، ولاعبي الورق فيها، وآخرين غيرهم. إننا نعيش في زمن متغيّر، وفي المستقبل لن يكون من المجدي، من ناحية اقتصادية، أن نُمضي ساعات طويلة لنشرب فنجاناً من القهوة.
في أعمالي، حاولتُ إبراز التباين بين الدَّرَج الضبابي المعتم، وبين الفضاءات المضاءة بمصابيح الفلورسنت في المقهى. المقهى مكان مريح ومألوف. كنت، ومنذ المراهقة، أرى مجموعات من الرجال يدخلون إلى المقهى ويخرجون منها، كنت أحياناً أتجرّأ على تلمُّس طريقي في عتمات الدَّرَج وولوج عالَم المقهى لاختلاس نظرة واستيعاب ما فيه من حميمية، حيث يجلس رجال يحاولون نسيان تفاصيل حياتهم اليومية وواقعهم.
تعلّمتُ، على مدار حياتي، الإعلاءَ من شأن أمور الحياة العادية، ونمط الحياة البسيطة غير المعقدة، وهو ما يساعدني على إنجاز عملي الفني بتكاملية. المقهى تحوي، بالنسبة لي، كلَّ ما هو حقيقي وإنساني، ولا متسع فيها للمظاهر الاجتماعية الزائفة. المكان قاسٍ جداً، لكنه هشّ للغاية، يغدو كل شيء فيه واضحاً ومكشوفاً؛ مقاعده، طاولاته العتيقة التي لا تثبت على الأرض باتزان، الطلاء المتقشّر على الجدران، المنفضة المنبعجة لطول استخدامها، مصابيح الضوء المغبّشة التي تتجمع حولها غيومٌ من دخان السجائر، السقوف العالية، الجدران الملونة بألوان تربة الأرض والتي تنسجم مع مقاعد المقهى الخشبية، والطاولات المتقشرة والمنظمة بشكل عشوائي في المكان... كلها تشكل خلفية تمنح الزائر وميضاً دافئاً وأليفاً.. المقاعد والطاولات وحدها تروي تاريخاً طويلاً.
مجموعات من الرجال يجلسون كأسراب طيور سوداء تتنوع في الشكل والحجم، هنالك صداقات غير معلَنة، رجال يلعبون الورق، نادراً ما يرفعون نظرهم عن أوراق اللعب، أجسادهم تكاد تكون ثابتة غير متحركة، كأنها تماثيل، بعض الهمهمة الخفيفة تملأ المكان، أحاول أن ألتقط لحظة انحناءة جسد أو كرسي فارغ يربض وحيداً في أحد زوايا المقهى.
خلال السنوات الست الماضية، كنت أمضي ليالي طويلةً تمتد لأسابيع أرسم وألوّن في المقهى، التي أصبحت وكأنها بيتٌ آخرُ لي، أجلس بعيداً وأراقب كل ما يدور حولي، كنت في مراهقتي مشدوداً وأنا ألتقط اللحظات الفريدة في مقهى بوسط البلد."
- هاني علقم