أصبحت الإدارة الاقتصادية والسياسية للسكان من خلال تعريضهم للموت ظاهرة عالمية. تكشف الحروب والإبادة الجماعية و"أزمات" اللاجئين والإبادة الايكولوجية وعمليات إنتاج الفقر والهشاشة والتمييز العنصري عن كيفية تحكم السلطات بأعداد متزايدة البشر من خلال تعريضهم المباشر وغير المباشر للموت. ثنائية الحياة والموت حقيقة لا مفر منها في الوجود، لذلك لا بد أن تظهر في المجال السياسي.

 يبقى توظيف ميشيل فوكو لمفهوم السياسات الحياتية والسلطة على الحياة وثيق الصلة بالفكر السياسي الحالي كما كان عند تشكيله لأول مرة. ومع ذلك، إذا كان عرض فوكو لدخول الحياة في فخ السياسة يوفر بعدًا واحدًا للسياسة الحياتية، أي السلطة على الحياة فقط، فأين نقيضه المضاد؟ لطالما كان وجود الموت عاملاً في الممارسات السياسية، لكن مفهوم السياسة الحياتية كما طرحه فوكو لا يمكن إلا أن يفسره جزئياً وفي حالات لا تنطبق إلا على السياق الغربي الرأسمالي المتقدم والغني. 

من أجل فهم عمليات الموت، توصل الباحث الأكاديمي الكاميروني آشيل ميمبي إلى فكرة سياسات الموت أو السياسات النكرووية، في مقال نشره عام 2003 بعنوان (السياسات النكرووية) ثم في عام 2016، أصدر كتابا بعنوان Politiques de l'inimitié، ترجم ونشر بالانجليزية في عام 2019، بالعنوان نفسه. وباستخدام فكرة (صنع الموت) إن جاز التعبير، يعيد ميمبي قراءة مفهوم فوكو للسياسات الحياتية ويدفعه نحو آفاق أبعد. 

يؤكد تفكير ميمبي في سياسات الموت في عالم ما بعد الاستعمار على دور الموت والعنف المرتبط بالاستعمار التاريخي والعنصرية الهيكلية. علاوة على ذلك،  يركز ميمبي على تواصل استخدام الموت في الدول التي تم استعمارها سابقا وأيضًا في الدول التي مارست الاستعمار. هناك محاولة لتهجير توظيف الموت إلى دول خارجية من خلال الحرب على الارهاب وسياسات الافقار الممنهج مثلا، ولكنه في واقع الحال، لا يزال في الديمقراطيات السياسية الحياتية التي (تركز على صنع الحياة) ولكن بشكل مخفي فقط، يكشف عن نفسه من حين لآخر ليظهر الوجه الآخر للديموقراطيات الزائفة. من خلال هذا الطرح الذي يضع العنصرية والتمييز على أنها تقنيات متكاملة للسلطة، يبدو أن استمرار هذه الممارسات السياسية والثقافية أمرًا حتميًا ما لم يكن هناك جهد واعٍ لتقويض السلطات التي تديم استخدامها. 

في هذا اللقاء سنحاول تقديم مصطلح ميمبي (السياسات النكرووية ) ببعض التفصيل مع اشارة مهمة لميشيل فوكو ومفهومه عن سياسات الحياة لتوضيح تميز مفهوم ميمبي، ثم سنتناول أمثلة معاصرة لتطبيق المفهوم كاندلاع الأعمال العنصرية ضد السود في الولايات المتحدة الأمريكية، وضد الآخر مع صعود اليمين المتطرف في أوروبا، وضد الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال العنصري الاسرائيلي وسياسات الموت في ظل جائحة كورونا الكونية.

أماني أبو رحمة  باحثة وكاتبة ومترجمة فلسطينية مقيمة في غزة. تحمل أبو رحمة درجة الماجستير في الصيدلة والتكنولوجيا الحيوية  وقد أكملت دورات أكاديمية في علم النفس. تشمل اهتماماتها الرئيسية دراسات ما بعد الحداثة والنسوية والسياسة الحيوية.  قامت أبو رحمة بتأليف و ترجمة العديد من الكتب، وقد صدر لها مؤخرا:  دونا هاراوي، نسوية سايبورغ:  مقاربة في بيان السايبورغ  والمعرفة من موقع (2020)، وأبعد من فوكو : السياسات الحياتية في عصر الجينوم (2017)، والإنسان بلا محتوى لجورجيو أجامبين (2018).

سيكون اللقاء بالعربية.