"فن الحفر من أقدم الفنون التي عرفتها حضارة وادي الرافدين، ومارسه فنانو العراق القديم منذ ما يزيد عن ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد. ففي هذا الوادي ظهرت أول المحفورات في الحجر والنحاس والذهب، وتجلت في الأختام الأسطوانية أو الصفائح المعدنية المكتوبة بالخط المسماري. وتعتبر الأختام الأسطوانية عملا فنيا راقيا، على الرغم من الطابع الوظيفي المباشر. ففيها يجتمع الرسم والحفر والطباعة (على الطين) وهذه صفات أساسية لفن الجرافيك، وما الفرق بينهما إلا المادة، فهذه على الورق وتلك على الطين. لقد حفر العراقيون القدماء الأشكال الإنسانية والحيوانية والنباتية بدقة متناهية، على الرغم من صغر حجم الأسطوانة أحيانا، بل إنهم أتقنوا النسب في تصوير شكل الإنسان أو الحيوان وخاصة الخيول والغزلان. وفي متحف اللوفر بباريس نماذج رائعة من هذه الأعمال، كما توجد نماذج مماثلة في متاحف عالمية أخرى. كانت تلك بداية فن الحفر، الذي ظهر فيما بعد في حضارات أخرى ليخدم وظائف وأشكال مختلفة. وما يهمنا الآن، كيف انتقلت هذه التقنيات عبر العصور لتعود إلينا بأشكال وصيغ ومواد، من مصادر مختلفة. لتشكل ما يدعى اليوم فن الغرافيك العراقي.
هناك من يؤمن بأن التاريخ يستمر ويتواصل في روح الإنسان ووجدانه مهما انقطعت سبل التواصل المعرفي، وتماهت الحضارات فيما بينها. فالذاكرة البصرية تنتقل من عصر إلى آخر، ومن جيل إلى آخر دون أن تفقد أسسها وجذورها كليا. وإلا فما سبب ولع الرسامين العراقيين بالحفر، سواء في لوحاتهم المرسومة أو لوحاتهم المطبوعة ؟ إلا أنهم اتبعوا ما شاهدوه بكثرة من آثار الأسلاف هنا وهناك، أم أن الحفر له مدلول روحي في وجدانهم الجمعي، أم أنه دليل على رغبتهم في ترك أثر عميق لكل ما ينجزون من أدب وفن؟ ربما كل هذا أو بعضه، هو ما أيقظ فيهم الرغبة ثانية عندما تعرفوا من جديد إلى فن الحفر والطباعة (الغرافيك)".
رافع الناصري
عمّان / آب ١٩٩٩